"إني أحب أن أسمعه من غيري"
كلما مرّ بي هذا الحديث الشريف، أفكر بدهشة عبد الله بن مسعود.. حين طلب منه رسول الله ﷺ أن يقرأ عليه شيئا من كلام الله.. فيسأل باستغراب: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟
أنت أعلم به مني يا رسول الله.. أنزل على قلبك، وتلقيته ممن هو أفضل مني.. جبريل الملَك، عليه السلام.. أنت علمتني إياه يا رسول الله، كيف أقرؤه عليك؟!
فيبيّن ﷺ السبب: "إني أحب أن أسمعه من غيري"
فيقرأ ابن مسعود من سورة النساء.. ويقرأ، حتى إذا وصل: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا".. قال حسبك.. فالتفتَ الصحابي، فإذا عينا رسول الله ﷺ تذرفان!
ذرفت عينا رسول الله ﷺ، مع أنه أول من سمعه على وجه الأرض، وتلقاه من الملَك مباشرة!
هذا الحديث الصحيح المليح، يجعلني أفكر في سرّ السماع، سماع هذا الكتاب..
شيء مذهل فعلًا! إنك كل مرة تسمعه، يُلهِمك شعورًا جديدا، وفتحًا جديدًا، ونورًا جديدًا، ودمعًا جديدًا..
ولم يقتصر الترغيب في كتاب الله على الحث على التلاوة وحسب.. لقد حثّنا أيضًا على استماعه، في غير ما موضع، وبأساليب مختلفة..
بل، والأعجب من ذلك، أن الله الجليل في كتابه يربط الاستماع بالتدبّر والتأثر دائمًا!
وكأن في ذلك إشارة إلى أنه يحصل باستماع كلامه تدبر زائد عن التلاوة..
ولنستعرض بعض الأمثلة:
١- "وإذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين"
إنهم فور سماعهم لآيات الكتاب، يفرّ منهم التعبير والكلام! تفيض أعينهم من الدمع من فرط التأثر.. ويؤمنون بعدها مباشرة: ربنا! آمنّا! فاكتبنا مع الشاهدين..
٢- "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله"
تتلى، وأنتم تستمعون..
يذكر الله الجليل في هذه الآية فضل الصحابة، وأن لهم وازعَيْن يمنعان الوقوع في الضلال: سماع القرآن، ومشاهدة رسول الله ﷺ ووجوده بينهم، قال قتادة: "أما الرسول ﷺ فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر"(١)
فلعله مما يثبت الإيمان ويزيد البصيرة، الاستماع إلى كتاب الله، استنادًا لهذه الآية الكريمة، والله أعلم
٣- "وإذا قرُئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون"
إنك تستمطر رحمة الله عليك وأنت تستمع فقط. يقول لك: إذا قرئ، استمع وأنصت. لعلك تُرحَم..
فقط! سبحان الله، هذا أقصر طريق لنيل رحمة الله في الدنيا والآخرة!
قال الليث بن سعد: "ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن؛ لقول الله عز وجل : "و إذا قرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون"
٤- " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"
هل رأيت كيف انعكس الاستماع على القلب فزاد الإيمان؟ ثم هل رأيت كيف انعكست زيادة الإيمان على السلوك، فهم بعد زيادة الإيمان يتوكلون على ربهم؟ كله بتأثير السماع!
٥- " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا"
تخيل الموقف، يوصي بعضهم بعضا بالإنصات.. والنتيجة؟ " فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين" سبحان الله، فاض الشعور، لما قضي، فورًا، ولّوا منذرين! "قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه يهدي إلى الحق"
٦- وتأمل الوصف، في مطلع سورة الجنّ " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا" قل لأصحابك، قل لعبادي، قل للناس: "أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن" وهم بعد استماعهم يتعجبون ويذهلون من تأثيره وقوته وجماله.. سبحان الله.. قرآنا عجبا! "يهدي إلى الرشد فآمنّا به ولن نشرك بربنا أحدا" آمنوا بعد استماعهم له! وتأمل كيف يصف الله موقف رسوله ﷺ وهو يتلو حول الوادي.. والجن يستمعون، ويلتصق بعضهم ببعض، ويزدحمون لاستماع القراءة! : " و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبدا" كادوا لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضًا، حِرْصاً على سماع القرآن!
٧- "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"
فقط. إن طلب أحد من المشركين جوارك، أجره حتى يسمع كلام الله! كل ماعليك فعله، أن يسمع كلام الله وحسب!
يا للتأثير المهيب.. يا للسلطان المذهل!
سبحان الله، "كتاب قاهر غلاب! ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة - : "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"(٢)
ينهى بعضهم بعضًا عن استماعه، لمعرفتهم أنه مؤثر يتغلغل إلى الحسّ والشعور، ويأخذ بتلابيب القلب!
وثمة مواضع أخرى في الكتاب الكريم تشهد لهذا المعنى، لم أذكرها خشية الإطالة، وفيها من الجمال الآسِر مافيها، مثل قوله: "فبشر عباد.. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" ومثل التصوير العجيب الأخّاذ في أواخر سورة الإسراء "إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا.. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا.. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا"
وغيرها.. ولو تتبعتَ نصوص الكتاب والسنة، وماورد عن السلف الصالح في هذا السياق رأيت عجبًا..
ولعل السبب والله أعلم، أن القارئ يشتغل بالتلاوة وأحكامها، والمستمع يتفرغ للتأمل والتفكير، فلا يشغله شيء عن التدبر، يستمع فقط..
أختم بموقف إيمانيّ بديع، بسيط، في شعاب بين الجبال، لقلوب عظيمة مُلِئت إيمانًا وعلمًا.. صورة صحب رسول الله ﷺ متحلقين مجتمعين.. وقارئ حسن الصوت يقرأ فيهم..
هذا عمر بن الخطاب، يقول لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- : "يا أبا موسى، ذكّرنا ربنا!"
فيقرأ، وهم يستمعون ويبكون..
فاجعل لك وِردًا من السماع، تنهل منه كل يوم..
تُقبل على الكتاب فيعطيك الله ويعطيك، رحمة وهدى وبركة.. استمع إليه يزدك إيمانًا، ويرحمك الله به، وتعمر السكينة فؤادك، ويُزهر بين جنبيك جمالًا وشعورًا ساحرًا بديعًا، فتفيض عيناك، ويفيض قلبك بالخشوع والخضوع، فتنقاد الجوارح..
استمع إليه يرحمك الله، لن تسمع كلامًا أحسن منه، ولا أعذب منه، ولا أجمل منه.. كم نسمع من كلام البشر كل يوم ولا نمل ولا نكلّ، وهذا كتاب الله بين أيدينا فكم نصرف من أوقاتنا على جماله وهداه..
استمع إليه، أدِم استماعك، أدام الله إيمانك وهداك..
_____________
(١) اقتباس لابن عاشور -رحمه الله-
(٢) اقتباس لسيد قطب -رحمه الله-
للاستزادة، يُرجى التفضل بالاطلاع على كتاب الطريق إلى القرآن للشيخ إبراهيم السكران، وكتاب تحزيب القرآن للشيخ عبد العزيز الحربي.
لما سمعتك تاليا للمصحف
ردحذفأحسست أن الكون أصبح معطفي
وشعرت أن الأفق أصبح درة
بيضاء تمنحني بياض الأحرف
وشعرت أن الأرض صارت واحة
خضراء تمنحني جناح مرفرف
لما سمعتك تاليا مسترسلا
جددت معرفتي ،كأن لم أعرف!
إيقاع صوتك في مسامع مهجتي
إيقاع صوت الماء للمتلهف
لما سرتَ في التلاوة خلتني
لم تبق عين في دمي لم تذرف!
حتى شراييني سمعت بكاءها
نبضا زكي اللحن لم يتوقف
لما سمعتك تاليا أبصرتني
فوق الكواكب من جلال الموقف!
ورأيت مكة لوحة مرسومة
تسبي فؤاد المنصت المتشوف
بطحاؤها وجبالها وصخورها
إحساس مشتاق ونظرة محتفي
رتل ، فما في الجسم عرق نابض
إلا وقد أصغى بسمع مرهف
متّع فؤادك بالكتاب وآيهِ
فالمتعة الكبرى تلاوة مصحفِ
-العشماوي- .
الله على كلامك ياخولة ����
ردحذفالحمد لله على نعمة القرآن اللي حُرمت منها كل الأديان..
ذكرتيني بموقف كنت ايام المتوسط بدار تحفيظ ، كان من بين الانشطة الصيفية تكريم شغالة تنطق الشهادة بالدار نفسه ، والسبب كانت تجي مع كفيلتها مرة عجوز تجي وتجلس بالحلقة عشان تقضي حاجاتها ، يعني سبحان الله تأثرت من قراءة حريم كبار بعض مخارج الحروف والاصوات مب واضحة��
كيف للي يتقن القراءة����
وقبل تنطق الشهادة تقدمت وحدة من البنات ماشاء الله كان صوتها والتجويد سبحان الله تذكرون الله عليه����
كنا كلنا نسمع وكأننا أول مرة نسمع تلاوتها ، استوقفنا صوتها تبكي والله العظيم كأنها طفل��
وتزيد البنت بالايات وتقرأ وهي يزيد بكائها وشوي سبحان الله كل اللي بالمركز يبكون طالبات معلمات امهات
وبعدين نطقت الشهادة ، سألناها ليش بكيتي كذا؟
قالت انا كلمت اهلي وزوجي وهددوني اذا اسلمت وجيت اليوم بهون اني انطق الشهادة وسمعت قرآنكم وحسيت اني ولدت من جديد تقول مشاعري ماتوصف ابد انا تو اشوف النور وتو يرتاح قلبي ...
قالت كلام كثير بلغتها ماكانت تعرف عربي مره مره وترجمته لنا شغالة ثانية ..
الشاهد بالموضوع ان التأثير اللي ذكرتيه بمدونتك باقي للحين بس الله يسامحنا مانستشعره زي ماينبغي��
سبحانه :"
ردحذفالحمد لله على كلامه، دائما يجيء القرآن بهدوء غريب، كم مرة يعجز الإنسان عن النوم مثلًا
يستمع للقرآن، تَغمره سكينة عجيبة، و ينام :(
كم مرة يمتلئ جوف الإنسان بالخوف، بسبب أو بدون، يستمع للقرآن، فيكون كاللحاف له، شعور لا يُصور، لكنه يُحسّ..
جوارحك كلها تشترك بالشعور إذا كنت تستمع للقرآن،أتعجّب فعلًا كيف يستطيع الإنسان الضعيف أن يحمتل أن يسمع كلام الله، الحمد لله، الحمد لله حقًا :((((ّ
ومضة قلم✒️
ردحذفالقرآن نور يشرق في قلب المؤمن فيزهر بالإيمان .. ويشرق في حياته فينيرها بالسعادة .. ويشرق في سماء الأمة فيكون ضياءً وأمناً .. وهدىً وخيراً ..
نريد أن يكون القرآن واقعاً يعيشه لا كلمات نرددها..
فإلى كل من بذل نفسه ووقته في حفظ القرآن اقول.. لقد من الله عليك واصطفاك من بين خلقه لحمل كتابه حفظاً ومدارسةً .. فليكن هو حياتك ..
لك مني جزيل الشكر .. ومن الله الأجر والمثوبة ..
بالقرآن سترقي الجنان بإذن الله تعالى .. وكما تسابقنا في الدنيا على حفظه و فهمه و تدبره و العمل به .. سيكون سباقنا في الآخرة في درجات الجنان ..
صدى كاتبة**
سبحان الله🌸
ردحذفالكثير منا من يهتم بالتلاوة والحفظ وقد يهمل جانب الاستماع
ولعل في مقالك الرائع تذكير بأهمية الاستماع وتأثيره
وكم نحن في نعمة فمن أراد أن يستمع لقارئ فالسبل ميسرة وكثيرة فنحن بين أكثر من قناة خاصة للقرآن في المجد وبرامج عدة في إذاعة القرآن وفقنا الله وإياكم وجعلنا من أهل القرآن(أم رحاب)
جزاكم الله خيرا جميعًا
ردحذفالله يسعدك بس أذكرك اجنبي صور الارواح جميعها لأنها ما تجوز فاستبدلي صور الأرواح وفقك ربي
ردحذفأحس أنني وقعت على كنزٍ عظيم إذا وجدت مدونتك هذه!❤
ردحذف